الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
الأصل في حكمهم قول الله تعالى: قال: [والمحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة] وجملته أن المحاربين الذين تثبت لهم أحكام المحاربة التي نذكرها بعد, تعتبر لهم شروط ثلاثة أحدها: أن يكون ذلك في الصحراء فإن كان ذلك منهم في القرى والأمصار فقد توقف أحمد - -رحمه الله- - فيهم وظاهر كلام الخرقي أنهم غير محاربين وبه قال أبو حنيفة, والثوري وإسحاق لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق وقطع الطريق إنما هو في الصحراء ولأن من في المصر يلحق به الغوث غالبا, فتذهب شوكة المعتدين ويكونون مختلسين والمختلس ليس بقاطع, ولا حد عليه وقال كثير من أصحابنا: هو قاطع حيث كان وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي, وأبو يوسف وأبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب ولأن ذلك إذا وجد في المصر كان أعظم خوفا وأكثر ضررا, فكان بذلك أولى وذكر القاضي أن هذا إن كان في المصر مثل أن كبسوا دارا فكان أهل الدار بحيث لو صاحوا أدركهم الغوث, فليس هؤلاء بقطاع طريق لأنهم في موضع يلحقهم الغوث عادة وإن حصروا قرية أو بلدا ففتحوه وغلبوا على أهله أو محلة منفردة, بحيث لا يدركهم الغوث عادة فهم محاربون لأنهم لا يلحقهم الغوث فأشبه قطاع الطريق في الصحراء الشرط الثاني: أن يكون معهم سلاح, فإن لم يكن معهم سلاح فهم غير محاربين لأنهم لا يمنعون من يقصدهم ولا نعلم في هذا خلافا فإن عرضوا بالعصى والحجارة فهم محاربون وبه قال الشافعي, وأبو ثور وقال أبو حنيفة: ليسوا محاربين لأنه لا سلاح معهم ولنا أن ذلك من جملة السلاح الذي يأتى على النفس والطرف فأشبه الحديد الشرط الثالث: أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهرا فأما إن أخذوه مختفين, فهم سراق وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة, فاستلبوا منها شيئا فليسوا بمحاربين لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق. قال: [فمن قتل منهم وأخذ المال, قتل وإن عفا صاحب المال وصلب حتى يشتهر ودفع إلى أهله, ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل, ولم يصلب وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى, في مقام واحد ثم حسمتا وخلى] روينا نحو هذا عن ابن عباس وبه قال قتادة وأبو مجلز, وحماد والليث والشافعي, وإسحاق وعن أحمد أنه إذا قتل وأخذ المال, قتل وقطع لأن كل واحدة من الجنايتين توجب حدا منفردا فإذا اجتمعا وجب حدهما معا, كما لو زنى وسرق وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفى لأن " أو " تقتضى التخيير, كقوله تعالى: وإن مات قبل قتله, لم يصلب لأن الصلب من تمام الحد وقد فات الحد بموته فيسقط ما هو من تتمته وإن قتل في المحاربة بمثقل قتل, كما لو قتل بمحدد لأنهما سواء في وجوب القصاص بهما وإن قتل بآلة لا يجب القصاص بالقتل بها كالسوط والعصا والحجر الصغير فظاهر كلام الخرقي, أنهم يقتلون أيضا لأنهم دخلوا في العموم. الحال الثاني: قتلوا ولم يأخذوا المال فإنهم يقتلون ولا يصلبون وعن أحمد رواية أخرى أنهم يصلبون لأنهم محاربون يجب قتلهم فيصلبون, كالذين أخذوا المال والأولى أصح لأن الخبر المروى فيهم قال فيه: ومن قتل ولم يأخذ المال قتل " ولم يذكر صلبا ولأن جنايتهم بأخذ المال مع القتل تزيد على الجناية بالقتل وحده فيجب أن تكون عقوبتهم أغلظ, ولو شرع الصلب ها هنا لاستويا والحكم في تحتم القتل وكونه حدا ها هنا كالحكم فيه إذا قتل وأخذ المال. وإذا جرح المحارب جرحا في مثله القصاص, فهل يتحتم فيه القصاص؟ على روايتين إحداهما: لا يتحتم لأن الشرع لم يرد بشرع الحد في حقه بالجراح فإن الله تعالى ذكر في حدود المحاربين القتل والصلب والقطع والنفى فلم يتعلق بالمحاربة غيرها فلا يتحتم, بخلاف القتل فإنه حد فتحتم, كسائر الحدود فحينئذ لا يجب فيه أكثر من القصاص والثانية: يتحتم لأن الجراح تابعة للقتل فيثبت فيها مثل حكمه ولأنه نوع قود, أشبه القود في النفس والأولى أولى وإن جرحه جرحا لا قصاص فيه كالجائفة فليس فيه إلا الدية وإن جرح إنسانا وقتل آخر, اقتص منه للجراح وقتل للمحاربة وقال أبو حنيفة: تسقط الجراح لأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سوى القتل ولنا أنها جناية يجب بها القصاص في غير المحاربة, فيجب بها في المحاربة كالقتل ولا نسلم أن القصاص في الجراح حد, وإنما هو قصاص متمحض فأشبه ما لو كان الجرح في غير المحاربة وإن سلمنا أنه حد, فإنه مشروع مع القتل فلم يسقط به كالصلب, وكقطع اليد والرجل عندهم. الحال الثالث: أخذ المال ولم يقتل فإنه تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى وهذا معنى قوله سبحانه: مسألة قال: [ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله] وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال مالك وأبو ثور: للإمام أن يحكم عليه حكم المحارب لأنه محارب لله ولرسوله, ساع في الأرض بالفساد فيدخل في عموم الآية ولأنه لا يعتبر الحرز فكذلك النصاب ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا قطع إلا في ربع دينار) ولم يفصل ولأن هذه جناية تعلقت بها عقوبة في حق غير المحارب, فلا تتغلظ في المحارب بأكثر من وجه واحد كالقتل يغلظ بالانحتام كذلك ها هنا تتغلظ بقطع الرجل معها, ولا تتغلظ بما دون النصاب وأما الحرز فهو معتبر فإنهم لو أخذوا مالا مضيعا لا حافظ له لم يجب القطع وإن أخذوا ما يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا, قطعوا على قياس قولنا في السرقة وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي, أنه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا ويشترط أيضا أن لا تكون لهم شبهة فيما يأخذونه من المال على ما ذكرنا في المسروق.
مسألة قال: [ونفيهم أن يشردوا فلا يتركوا يأوون في بلد] وجملته أن المحاربين إذا أخافوا السبيل, ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا فإنهم ينفون من الأرض لقول الله تعالى: مسألة قال: [فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم, سقطت عنهم حدود الله تعالى وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح, والأموال إلا أن يعفى لهم عنها] لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم وبه قال مالك والشافعي, وأصحاب الرأي وأبو ثور والأصل في هذا قول الله تعالى: فصل وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة كالزنا والقذف, وشرب الخمر والسرقة فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة لأنها حدود لله تعالى, فسقطت بالتوبة كحد المحاربة إلا حد القذف, فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي ولأن في إسقاطها ترغيبا في التوبة ويحتمل أن لا تسقط لأنها لا تختص المحاربة فكانت في حقه كهى في حق غيره وإن أتى حدا قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة عليه لم يسقط الحد الأول لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذي تاب منه دون غيره.
فصل وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين, وأصلح ففيه روايتان إحداهما: يسقط عنه لقول الله تعالى: فصل وحكم الردء من القطاع حكم المباشر وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي: ليس على الردء إلا التعزير لأن الحد يجب بارتكاب المعصية فلا يتعلق بالمعين, كسائر الحدود ولنا أنه حكم يتعلق بالمحاربة فاستوى فيه الردء والمباشر كاستحقاق الغنيمة وذلك لأن المحاربة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة, فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء بخلاف سائر الحدود فعلى هذا إذا قتل واحد منهم, ثبت حكم القتل في حق جميعهم فيجب قتل جميعهم وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم وصلبهم, كما لو فعل الأمرين كل واحد منهم.
فصل وإن كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم من المقطوع عليه لم يسقط الحد عن غيره, في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة: يسقط الحد عن جميعهم ويصير القتل للأولياء إن شاءوا قتلوا, وإن شاءوا عفوا لأن حكم الجميع واحد فالشبهة في فعل واحد شبهة في حق الجميع ولنا أنها شبهة اختص بها واحد فلم يسقط الحد عن الباقين, كما لو اشتركوا في وطء امرأة وما ذكروه لا أصل له فعلى هذا لا حد على الصبي والمجنون وإن باشرا القتل وأخذا المال لأنهما ليسا من أهل الحدود وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما, ودية قتيلهما على عاقلتهما ولا شيء على الردء لهما لأنه إذا لم يثبت ذلك للمباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق الأولى وإن كان المباشر غيرهما, لم يلزمهما شيء لأنهما لم يثبت في حقهما حكم المحاربة وثبوت الحكم في حق الردء ثبت بالمحاربة.
فصل وإن كان فيهم امرأة ثبت في حقها حكم المحاربة, فمتى قتلت وأخذت المال فحدها حد قطاع الطريق وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يجب عليها الحد ولا على من معها لأنها ليست من أهل المحاربة, كالرجل فأشبهت الصبى والمجنون ولنا أنها تحد في السرقة فيلزمها حكم المحاربة كالرجل, وتخالف الصبى والمجنون ولأنها مكلفة يلزمها القصاص وسائر الحدود فلزمها هذا الحد كالرجل إذا ثبت هذا, فإنها إن باشرت القتل أو أخذ المال ثبت حكم المحاربة في حق من معها لأنهم ردء لها وإن فعل ذلك غيرها, ثبت حكمه في حقها لأنها ردء له كالرجل سواء وإن قطع أهل الذمة الطريق أو كان مع المحاربين المسلمين ذمي, فهل ينتقض عهدهم بذلك؟ فيه روايتان فإن قلنا: ينتقض عهدهم حلت دماؤهم وأموالهم بكل حال وإن قلنا: لا ينتقض عهدهم حكمنا عليهم بما نحكم على المسلمين.
فصل وإذا أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود الله تعالى فإن كانت الأموال موجودة, ردت إلى مالكها وإن كانت تالفة أو معدومة وجب ضمانها على آخذها وهذا مذهب الشافعي ومقتضى قول أصحاب الرأي: أنها إن كانت تالفة, لم يلزمها غرامتها كقولهم في المسروق إذا قطع السارق ووجه المذهبين ما تقدم في السرقة ويجب الضمان على الآخذ دون الردء لأن وجود الضمان ليس بحد فلا يتعلق بغير المباشر له, كالغصب والنهب ولو تاب المحاربون قبل القدرة عليهم وتعلقت بهم حقوق الآدميين من القصاص والضمان, لاختص ذلك بالمباشر دون الردء لذلك ولو وجب الضمان في السرقة لتعلق بالمباشر دون الردء لما ذكرنا - والله أعلم -.
فصل إذا اجتمعت الحدود, لم تخل من ثلاثة أقسام القسم الأول: أن تكون خالصة لله تعالى فهي نوعان أحدهما: أن يكون فيها قتل مثل أن يسرق, ويزنى وهو محصن ويشرب الخمر ويقتل في المحاربة, فهذا يقتل ويسقط سائرها وهذا قول ابن مسعود وعطاء, والشعبي والنخعي والأوزاعي, وحماد ومالك وأبي حنيفة وقال الشافعي: يستوفى جميعها لأن ما وجب مع غير القتل, وجب مع القتل كقطع اليد قصاصًا ولنا قول ابن مسعود قال سعيد حدثنا حسان بن علي, حدثنا مجالد عن عامر عن مسروق, عن عبد الله قال: إذا اجتمع حدان أحدهما القتل, أحاط القتل بذلك وقال إبراهيم يكفيه القتل وقال: حدثنا هشيم أخبرنا حجاج عن إبراهيم, والشعبي وعطاء أنهم قالوا مثل ذلك وهذه أقوال انتشرت في عصر الصحابة والتابعين ولم يظهر لها مخالف, فكانت إجماعا ولأنها حدود لله تعالى فيها قتل فسقط ما دونه كالمحارب إذا قتل وأخذ المال, فإنه يكتفى بقتله ولا يقطع ولأن هذه الحدود تراد لمجرد الزجر ومع القتل لا حاجة إلى زجره, ولا فائدة فيه فلا يشرع ويفارق القصاص فإن فيه غرض التشفى والانتقام ولا يقصد منه مجرد الزجر, إذا ثبت هذا فإنه إذا وجد ما يوجب الرجم والقتل للمحاربة أو القتل للردة أو لترك الصلاة, فينبغي أن يقتل للمحاربة ويسقط الرجم لأن في القتل للمحاربة حق آدمي في القصاص وإنما أثرت المحاربة في تحريمه, وحق الآدمي يجب تقديمه النوع الثاني: أن لا يكون فيها قتل فإن جميعها يستوفى من غير خلاف نعلمه ويبدأ بالأخف فالأخف, فإذا شرب وزنى وسرق حد للشرب أولا ثم حد للزنا, ثم قطع للسرقة وإن أخذ المال في المحاربة قطع لذلك ويدخل فيه القطع للسرقة ولأن محل القطعين واحد, فتداخلا كالقتلين وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يتخير بين البداءة بحد الزنا وقطع السرقة لأن كل واحد منهما ثبت بنص القرآن ثم يحد للشرب ولنا أن حد الشرب أخف, فيقدم كحد القذف ولا نسلم أن حد الشرب غير منصوص عليه, في السنة ومجمع على وجوبه وهذا التقديم على سبيل الاستحباب ولو بدأ بغيره, جاز ووقع الموقع ولا يوالى بين هذه الحدود لأنه ربما أفضى إلى تلفه بل متى برئ من حد أقيم الذي يليه. القسم الثاني: الحدود الخالصة للآدمى وهو القصاص, وحد القذف فهذه تستوفى كلها ويبدأ بأخفها, فيحد للقذف ثم يقطع ثم يقتل لأنها حقوق للآدميين أمكن استيفاؤها, فوجب كسائر حقوقهم وهذا قول الأوزاعي والشافعي وقال أبو حنيفة: يدخل ما دون القتل فيه احتجاجا بقول ابن مسعود, وقياسا على الحدود الخالصة لله تعالى ولنا أن ما دون القتل حق لآدمى فلم يسقط به كذنوبهم وفارق حق الله تعالى, فإنه مبنى على المسامحة. القسم الثالث: أن تجتمع حدود الله وحدود الآدميين وهذه ثلاثة أنواع أحدهما: أن لا يكون فيها قتل فهذه تستوفى كلها وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وعن مالك أن حدى الشرب والقذف يتداخلان, لاستوائهما فهما كالقتلين والقطعين ولنا أنهما حدان من جنسين لا يفوت بهما المحل, فلم يتداخلا كحد الزنا والشرب ولا نسلم استواءهما, فإن حد الشرب أربعون وحد القذف ثمانون وإن سلم استواؤهما لم يلزم تداخلهما لأن ذلك لو اقتضى تداخلهما, لوجب دخولهما في حد الزنا لأن الأقل مما يتداخل يدخل في الأكثر وفارق القتلين والقطعين لأن المحل يفوت بالأول فيتعذر استيفاء الثاني وهذا بخلافه فعلى هذا, يبدأ بحد القذف لأنه اجتمع فيه معنيان: خفته وكونه حقا لآدمى شحيح إلا إذا قلنا: حد الشرب أربعون فإنه يبدأ به لخفته ثم بحد القذف, وأيهما قدم فالآخر يليه ثم بحد الزنا فإنه لا إتلاف فيه, ثم بالقطع هكذا ذكره القاضي وقال أبو الخطاب: يبدأ بالقطع قصاصا لأنه حق آدمي متمحض فإذا برئ حد للقذف إذا قلنا: هو حق آدمي ثم يحد للشرب فإذا برئ, حد للزنا لأن حق الآدمي يجب تقديمه لتأكده النوع الثاني: أن تجتمع حدود لله تعالى وحدود لآدمى وفيها قتل فإن حدود الله تعالى تدخل في القتل سواء كان من حدود الله تعالى, كالرجم في الزنا والقتل للمحاربة أو الردة أو لحق آدمي, كالقصاص لما قدمناه وأما حقوق الآدمي فتستوفى كلها ثم إن كان القتل حقا لله تعالى استوفيت الحقوق كلها متوالية لأنه لا بد من فوات نفسه, فلا فائدة في التأخير وإن كان القتل حقا لآدمى انتظر باستيفائه الثاني برؤه من الأول لوجهين أحدهما: أن الموالاة بينهما يحتمل أن تفوت نفسه قبل القصاص, فيفوت حق الآدمي والثاني: أن العفو جائز فتأخيره يحتمل أن يعفو الولى فيحيا بخلاف القتل حقا لله سبحانه النوع الثالث: أن يتفق الحقان في محل واحد, ويكون تفويتا كالقتل والقطع قصاصا وحدا فإن كان فيه ما هو خالص لحق الله تعالى كالرجم في الزنا, وما هو حق لآدمى كالقصاص قدم القصاص, لتأكد حق الآدمي وإن اجتمع القتل للقتل في المحاربة والقصاص بدئ بأسبقهما لأن القتل في المحاربة فيه حق لآدمى أيضا فيقدم أسبقهما, فإن سبق القتل في المحاربة استوفى ووجب لولى المقتول الآخر ديته في مال الجاني, وإن سبق القصاص قتل قصاصا ولم يصلب لأن الصلب من تمام الحد, وقد سقط الحد بالقصاص فسقط الصلب كما لو مات ويجب لولى المقتول في المحاربة ديته لأن القتل تعذر استيفاؤه, وهو قصاص فصار الوجوب إلى الدية وهكذا لو مات القاتل في المحاربة وجبت الدية في تركته لتعذر استيفاء القتل من القاتل ولو كان القصاص سابقا, فعفا ولى المقتول استوفى للمحاربة سواء عفا مطلقا, أو إلى الدية وهذا مذهب الشافعي وأما القطع: فإذا اجتمع وجوب القطع في يد أو رجل قصاصا وحدا قدم القصاص على الحد المتمحض لله تعالى لما ذكرناه سواء تقدم سببه أو تأخر وإن عفا ولى الجناية, استوفى الحد فإذا قطع يدا وأخذ المال في المحاربة قطعت يده قصاصا, وينتظر برؤه فإذا برئ قطعت رجله للمحاربة لأنهما حدان وإنما قدم القصاص في القطع دون القتل لأن القطع في المحاربة حد محض وليس بقصاص, والقتل فيها يتضمن القصاص ولهذا لو فات القتل في المحاربة وجبت الدية, ولو فات القطع لم يجب له بدل وإذا ثبت أنه يقدم القصاص على القطع في المحاربة فقطع يده قصاصا, فإن رجله تقطع وهل تقطع يده الأخرى؟ نظرنا فإن كان المقطوع بالقصاص قد كان يستحق القطع بالمحاربة قبل الجناية الموجبة للقصاص فيه لم يقطع أكثر من العضو الباقي من العضوين اللذين استحق قطعهما لأن محل القطع ذهب بعارض حادث فلم يجب قطع بدله, كما لو ذهبت بعدوان أو بمرض وعلى هذا لو ذهب العضوان جميعا سقط القطع عنه بالكلية وإن كان سبب القطع قصاصا سابقا على محاربته أو كان المقطوع غير العضو الذي وجب قطعه في المحاربة, مثل أن وجب عليه القصاص في يساره بعد وجوب قطع يمناه في المحاربة فهل تقطع اليد الأخرى للمحاربة؟ على وجهين بناء على الروايتين في قطع يسرى السارق بعد قطع يمينه إن قلنا: تقطع ثم قطعت ها هنا وإلا فلا وإن سرق وأخذ المال في المحاربة, قطعت يده اليمنى لأسبقهما فإن كانت المحاربة سابقة قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد, وحسمتا وهل تقطع يسرى يديه للسرقة؟ على الروايتين فإن قلنا: تقطع انتظر برؤه من القطع للمحاربة لأنهما حدان وإن كانت السرقة سابقة قطعت يمناه للسرقة ولا تقطع رجله للمحاربة حتى تبرأ يده وهل تقطع يسرى يديه للمحاربة؟ على وجهين.
فصل وإن سرق وقتل في المحاربة, ولم يأخذ المال قتل حتما ولم يصلب, ولم تقطع يده لأنهما حدان فيهما قتل فدخل ما دون القتل فيه ولم يصلب لأن الصلب من تمام حد قاطع الطريق إذا أخذ المال مع القتل, ولم يوجد وهذان حدان كل واحد منهما منفصل عن صاحبه, فإذا اجتمعا تداخلا وإن قتل في المحاربة جماعة قتل بالأول حتما وللباقين ديات أوليائهم لأن قتله استحق بقتل الأول وتحتم بحيث لا يسقط, فتعينت حقوق الباقين في الدية كما لو مات.
فصل إذا شهد عدلان على رجل أنه قطع عليهما الطريق وعلى فلان وأخذ متاعهم, لم تقبل شهادتهما لأنهما صارا خصمين له بقطعه عليهما وإن قالا: نشهد أن هذا قطع الطريق على فلان وأخذ متاعه قبلت شهادتهما, ولم يسألهما الحاكم: هل قطع عليكما معه أم لا؟ لأنه لا يسألهما ما لم يدع عليهما وإن عاد المشهود له فشهد عليه أنه قطع عليهما الطريق وأخذ متاعهما, لم تقبل شهادته لأنه صار عدوا له بقطعه الطريق عليه وإن شهد شاهدان أن هؤلاء عرضوا لنا في الطريق وقطعوها على فلان قبلت شهادتهما لأنه لم يثبت كونهما خصمين بما ذكراه.
|